في هذه المادة، أرى أن نموذجاً كالنموذج الدستوري البريطاني قد يكون مناسباً للحالة السورية. هذا ليس دعماً لفكرة الملكية الدستورية في سوريا، بل إسقاطٌ على الآليات الدستورية التي أوصلت بريطانيا للاستقرار.
بريطانيا لا تمتلك دستورًا مكتوبًا واحدًا، بل تعتمد على مجموعة من الوثائق والقوانين والأعراف والممارسات التي تحدد نظام الحكم وحقوق المواطنين.
أول وثيقة دستورية في بريطانيا كانت ماغنا كارتا (الميثاق الأعظم)، التي أصدرها الملك جون في عام 1215، والتي منحت بعض الحقوق والحريات للنبلاء والكنيسة والشعب.
خلال القرن السابع عشر، شهدت بريطانيا حروب الممالك الثلاث والثورة المجيدة، التي أدت إلى تقوية سلطة البرلمان على حساب الملك، وإصدار وثيقة الحقوق في عام 1689، والتي حددت مبادئ الحكم الملكي البرلماني.
في القرن الثامن عشر، تشكلت المملكة المتحدة من اتحاد إنجلترا واسكتلندا في عام 1707، ثم انضمت إليها أيرلندا في عام 1801. في القرن التاسع عشر، شهدت بريطانيا إصلاحات انتخابية تدريجية، أدت إلى توسيع قاعدة التصويت لشمول جميع البالغين.
في القرن العشرين، شهدت بريطانيا انفصال أيرلندا عن المملكة المتحدة في عام 1921، باستثناء أيرلندا الشمالية كما شهدت بريطانيا إصلاحات دستورية تهدف إلى زيادة الديمقراطية واللامركزية، مثل إنشاء برلمانات إقليمية لإسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية في نهاية القرن.
هذه العجلة التاريخية المتسارعة، فيها ملاحظة أساسية ألا وهي تكوين أو تعديل النصوص الدستورية بعد كل اضطراب يشهده المجتمع: ففي أعقاب كل اضطراب وصراع، ينبعث نص دستوري جديد يعكس توازناً جديداً للسلطات وحقوق المواطنين. مثلاً، جاءت “ماغنا كارتا” عام 1215، كرد فعل على التوترات بين الملك والنبلاء، انتهى التوتر بالاتفاق على وثيقة دستورية تمنح حقوقًا وحريات للطبقة النبيلة والشعب.
وفي أعقاب الثورة المجيدة في القرن السابع عشر، وفي سياق تعزيز سلطة البرلمان، أُصدِرَت وثيقة الحقوق عام 1689. هذه الخطوة شكلت مرحلة جديدة في تحديد مبادئ الحكم الملكي البرلماني، وتحديد حدود سلطات الملك.
وبعد اضطرابات اقتصادية واجتماعية، شهدت بريطانيا إصلاحات انتخابية تسهم في توسيع حقوق التصويت لشمول فئات أوسع من المواطنين. فقامت بتوسيع حقوق التصويت، وارتسمت صورة أوسع لمشاركة المواطنين في العملية الديمقراطية، حيث انتزعت الثورات الاجتماعية حقوقاً للطبقات الفقيرة ووسعت نطاق الديمقراطية.
مع توجيه الأنظار إلى سوريا بعد عام 2011، يُظهر الاستقراء للتاريخ البريطاني شبهاً بين الأحداث التي انبثقت منها نصوص دستورية، وبين الأحداث في سوريا التي لم ينتج عنها حتى الآن أي نص متفق عليه. وفي الثورة الإنكليزية كثير من القواسم المشتركة مع الثورة السورية، خاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان، وصلاحيات الملك المطلقة. ولذلك أرى ما يلي:
الحل في سوريا لا يخرج عن أحد احتمالين، إما أن يكون خارجياً يفرض على السوريين، أو أن يغلّب السوريون المصلحة العامة على الخاصة، ولذلك، يبدو مناسبًا أن يتوافق السوريون على نصوص دستورية تتشابه مع تلك الموجودة في بريطانيا، وذلك من خلال عملية صياغة يشارك فيها المجتمع المدني والنخبة السياسية الوطنية السورية. أو على الأقل، من تهمهم القضية السورية.
من خلال استلهام الخبرات البريطانية في تطوير النظام الدستوري، يمكن للسوريين تكوين نموذج يحقق التوازن بين السلطات ويعكس تطلعات المجتمع. يُشجع على إشراك مختلف فئات المجتمع، بما في ذلك المجتمع المدني والنخبة السياسية، لضمان تمثيل شامل وشفاف في عملية صياغة الدستور.
تقوم هذه العملية على الحوار والتعاون الفعّال بين مختلف الأطياف السورية، مع التركيز على القيم الديمقراطية وضمان حقوق المواطنين. بمشاركة المجتمع المدني، يُمكن تحديد الاحتياجات والتطلعات الوطنية بشكل أفضل، مما يسهم في بناء نصوص دستورية تحقق الاستقرار والعدالة في سوريا.
الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، قد يتطلب تسوية سياسية في البداية، والحقيقة أن نعم. وقد يكون ضرباً من الخيال. ولذلك ينبغي تنظيم حوار وطني يشمل ممثلين عن جميع الفئات والمناطق في سوريا، بمشاركة المجتمع المدني والقوى السياسية المختلفة. يتطلب ذلك التفاهم والتواصل المستمر لضمان شمولية وشرعية العملية.
ويتعين ضمان مشاركة دولية متوازنة ومحايدة في العملية، مع تعزيز دور منظمات دولية لتسهيل العملية وضمان التوازن. ويجب على جميع الأطراف العمل على تعزيز التفاهم الوطني والثقافي، وتجنب
السياسات التي تزيد من الانقسامات وتعزز وحدة الشعب. ومن الضروري جداً أن تكون هذه النصوص الدستورية المستقبلية قائمة على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، مما يسهم في تعزيز المواطنة وتحقيق العدالة.
أخيراً، إن النموذج الدستوري البريطاني، الذي يعتمد على التطور التاريخي والتوافق السياسي والاحترام للأعراف والممارسات، قد يكون مصدر إلهام للحالة السورية، التي تعاني من الصراعات والانقسامات والتدخلات الخارجية. فبدلاً من وضع دستور مكتوب جامد، يمكن للسوريين -على الأقل في الوقت الراهن-أن يبنوا دستورهم على أساس الواقع الاجتماعي والثقافي والديني لبلدهم، وأن يضعوا آليات للتعديل والتحديث بما يتناسب مع التغيرات المستجدة. هذا لا يعني أن يقلدوا نظام بريطانيا بشكل تام، بل أن يستخلصوا منه العبرة التاريخية والدستورية.
تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.
المزيد من مدونة الناس
أهمية اختيار الوقت المناسب
صراع النخبة.. مقتل التغيير والربيع العربي
رحلة الشباب في شمال غربي سوريا نحو الاستقلال المهني
مكاسب سريعة ولكنها قاتلة