الأخبارمدونة الناس

مكاسب سريعة ولكنها قاتلة

يحاولَ أن يقلع عن التدخين، وقبل أن يقرر يسأل نفسه: لماذا يجب عليّ أن أحرم نفسي من هذه اللحظة الممتعة؟ يمكنه مثلاً أن يحسّن من حياته وصحته في المستقبل من خلال نظام غذائي صحي، ولكنه الآن سيستمتع بحياته، فهو يكافح في أمور كثيرة تتطلب منه الكثير من التفكير والسجائر، والسجائر تعطيه الراحة التي يحتاجها؛ يبدأ يومه بالتدخين لمدة ساعة، السيجارة الصباحية تعني له الكثير، إنها تصنع يومه. يومه له بابٌ مفتاحه السيجارة. هو لا يعلم لماذا يشعر بهذا، ولكن إذا تم تحذيره من السرطان وأمراض الرئة سيستجيب للتحذير بنسبة مئة في المئة، رغم ذلك في قرارة نفسه يشعر بأن هذا سيحدث له فقط في المستقبل، قد يحدث غداً ولكن ليس اليوم. اللحظة الحاضرة تسحق الموقف.

هذا ما يسمى في علم النفس بـ “التحيز للحاضر” وهو “الاتجاه النفسي لتقدير الفوائد والتكاليف الحالية أكثر من الفوائد والتكاليف المستقبلية، وهذا يعني أن الناس يفضلون الحصول على مكافأة أو تجنب عقاب في الوقت الحاضر على الانتظار لمكافأة أو عقاب أكبر في المستقبل، وهذا يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة أو تأجيل الأعمال المهمة أو الصعبة”.

في كتاب قصة الحضارة للمؤرخ “ويل ديورانت” يذكر حواراً بين رجلين من البشر القدماء، يسأل أحدهما الآخر: فيم تفكر؟ فيجيب أنه لا يحتاج إلى التفكير لأن لديه من اللحم ما يكفي. ويُذكر أيضاً أن كتب علم الإنسان “الأنثروبولوجيا” تشير إلى أن سكان أستراليا الأصليين كانوا يتجنبون العمل إذا لم يكن لهم مكافأة فورية، وفي هذا الإطار تطور دماغ الإنسان لينصب اهتمامه على الحاضر، فلم يكن للبشر الأوائل ميولاً للتخطيط للمستقبل: كانوا يستيقظون صباحاً ثم يتوكلون على الله وتبدأ حياتهم.

وفي كتاب قصة الحضارة أيضاً يذكر المؤلف أن الإنسان لاحظ أن بعض الطيور تقوم بتخزين الطعام في الشجر، ولاحظ أن النحل يخزن العسل في الخلايا، وبإدراك الإنسان لفكرة تخزين الطعام خطى خطوة نحو الحضارة، وتعلم من الطبيعة الاهتمام بالمستقبل، وبالتالي صار يعيش رغداً من العيش. رغم ذلك ظلت المهددات الوجودية تحيط به من كل حدب وصوب حتى في العصر الحالي، فرغم عيشه برفاهية عالية فإن حياته تصبح مهددة بفعل بعض التحديات، وهذا ما عايشناه خلال انتشار فيروس كورونا.

هناك حالة في العلوم الإيكولوجية تعرف باسم “اللاتجانس البيئي” وهي الفجوة بين بيئتين، كالفرق بين النظام البيئي للغابة والنظام البيئي للصحراء مثلاً. ويمكن سحب الأمر على حالة شخص يشتري حاسوباً ذا مواصفات عالية ومن أرقى الماركات العالمية، ويقوم بتشغيله على نظام  windows 98القديم والمحدود بدون دعم معظم البرامج والتطبيقات الحديثة. الشاهد أن هناك فجوة بين تركيبة الدماغ وظروف الإنسان الحديث، وحتى نصل للمرحلة التي ندرك فيها البيئة المحيطة بنا، نرتكب الكثير من الأخطاء في تفكيرنا أهمها الانحياز للحاضر.

يخبرنا الوحي الإلهي عن هذه الحالة؛ يقول الله عز وجل: ﴿كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة﴾، فالتمسك باللحظة الآنية شديد السطوة على أنفسنا وهي مستبدة، ولذلك كان الصبر فضيلة الحكماء ويمارسه القلة من الناس، بينما الكثرة تسقط في شباك النشوة العاجلة، والعناوين التالية: تعلم الإنكليزية في خمسة أيام، اخسر وزنك في أسبوع، احترف Excel في ساعتين…، تلامس أحلام النجاح السريع من باب التحيز للحاضر، وتجعل الإنسان يطارد اللذة كل الوقت في سعيه لتجنب الألم في الطريق الصحيح والواقعي لأي هدف.

النجاح يحتاج إلى صبر، حصراً صبر جميل، فالصبر الجميل يضبط سطوة اللذة. كثير من الشباب اليوم يتوقف عن القراءة بعد صفحات قليلة لأنه لا يرى النتائج السريعة التي كان يحلم بها، ولم يستمر في تعلم الإنكليزية لأنه لم يتحدث بها بعد شهر. قد يكون هذا طبيعياً، فالإنسان لا يستطيع أن يحسب حساب المستقبل جيداً، ولا يمكنه أن يتخيل نفسه المستقبلية بدقة؛ سطوة اللحظة أقوى من أن تجعله يحسب حساب المستقبل.

ولكن كيف أدرب نفسي على مواجهة المكاسب العاجلة؟ عندما تحيط بهذا المفهوم بإمكانك الانتباه له أكثر في حياتك اليومية، وتذكر أن قوة إرادتك وشغفك لا تكفي للمواجهة، فهي تضعف مع الوقت، فالواحد منا يعزم على أكثر من أمر في صباح اليوم وينساه في الليل. ربما يكون الواحد منا محقاً في هذا أمام الضغوطات التي نواجهها في كل يوم، يعرف هذا بمفهوم ” نضوب التحكم” ومعناه أن عزيمة الإنسان لها حدود وقوة معينة، بعدها تبدأ بالنضوب والتلاشي.

والآن ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالاً مهماً: هل البيئة المحيطة بنا في الشمال السوري بيئة مشجعة مساندة لنا في التغلب على كبح جماح اللحظة الحاضرة؟. لماذا هذا السؤال؟ لأنك مهما كنت مميزاً ومهنياً وذكياً وحكيماً، فأنت بحاجة للحاضنة التي تفعّل فيها كل السلوكيات والأفكار الخاصة بك. مثلاً إذا كانت رؤيتك لنفسك أنك إنسان ناجح مهنياً أو أكاديمياً، فيجب عليك أن تحيط نفسك بمن يعينك على الوصول لهذا المبلغ، وهنا تأتي فراستك في اختيار الأصدقاء.

أخيراً استعن بالله ولا تعجز، لا تقارن نفسك بأي شخص آخر، فأنت أنت، لا تستند إلى يومك، بل فكر دائماً بالغد وخطط له، فكر بالنتائج السلبية التي تترتب على عدم قيامك بنشاط ما، وفكر أيضاً بأن أي نشاط تقوم به سينتهي قريباً وبعدها سترى ما يسرك، ركز على النتائج الإيجابية وذكر نفسك بالأسباب التي تجعلك تقوم بنشاط معين، أي فكر في كيف سيكون شعورك بالرضا والفخر عندما تنجز ذلك النشاط. وبما أننا على أبوب عام جديد؛ فنحن نتاج ما قمنا به في العام القديم، توكل على الله وأسأله كل شيء، وكن ذا صبر جميل.

تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *