الأخبارمدونة الناس

لا شعور بالذنب لدى جلادي الأسد طالما هو في السلطة

يبدو الشعور بالذنب من كوكب آخر لا ينتمي إلى ذات الكوكب الذي ينتمي إليه جلادو الأسد، فخلال أكثر من عقد مر على الانفلات المتوحش لآلة التعذيب التي صممها نظام الأسدين وأطلقها الابن ضد السوريين، لم تظهر أي علامة على الإحساس بمشاعر الذنب لدى أي من جلاديه، وما زالت عزقات وبراغي هذه الآلة العتيقة الصماء تعمل بكفاءة إجرامية محيرة.

لا شك أن أجهزة الأمن السورية ومن دار في فلكها احتاجت إلى إعفاء من العقوبة والحساب لممارسة هذا الكم من تدمير الضحايا، الذي يبدأ بإلغاء آرائهم وخياراتهم إلى حد قتلهم المعنوي، مروراً بإخفائهم، وينتهي بقتلهم الفعلي. لكن ذلك وحده لا يفسر غياب مشاعر الذنب لدى جلادي الأسد بكافة مراكزهم ومواقعهم وحيثياتهم وانتماءاتهم، فالحماية من الملاحقة والحساب قد تغري ساديين كثر كي يطلقوا العنان لأمراضهم، غير أنه من الصعب تصنيف جميع جلادي الأسد تحت بند السادية المرضية.

لطالما ميّز السوريون جلادي الأسد الساديين خلال السنوات الماضية، من أولئك الذين يتلذذون بآلام المعتقلين، ويتفننون في تعذيبهم الفعلي من خلال الإيذاء الحقيقي، والرمزي بإظهار الشماتة وسلب الإدارة والتحقير. في حالات مشابهة يعيش الجلاد كأنه في معركة مع المعتقل، يحاول فيها كسر إرادته وهزيمته، ويصبح هدفه قهر إرادة المعتقل، ويتملكه شعور الانتصار عندما يحقق ذلك بتحطيم المعتقل. لذلك “يفضل السجين العنيد الذي يقاوم بصلابة”، فالمعتقل العنيد يشعر الجلاد بالتحدي، هذا التحدي “الذي يفجر أقصى حالات ساديته” فهو في تحدٍ واختبار دائم لقوته وعنفه، وبالتالي “الرحمة والتعاطف مستبعدان وملغيان”.

سادية الجلاد هنا لا تتصف بأنها محرمة أو مذمومة، بل مرغوبة ومطلوبة لخدمة النظام، في حين يحتاجها الجلاد لتوكيد الذات. في كتاب “الإنسان الغاضب” للكاتب الإيطالي “فاستو أنتونيني”، يقول: “هذا أنا، أنا هنا، يقول السادي. يجب أن تلاحظ وجودي، وإذا لم تلاحظه بمحبتي فعليك أن تدركه من خلال ألمك، لأني أنا من يجعلك تتألم. بألمك أفرض عليك الاعتراف بوجودي. وجودي يصبح أكثر واقعية بمقدار ما تصبح معاناتك أكبر، وبمقدار ما تنكسر وتنهار”.

لكن سادية الجلاد لا تفسر الحالة الأسدية، حيث يبدأ تدمير داخلية المعتقل منذ اعتقاله، وتسحب إنسانيته منه فيصبح مجرد شيء، ويعطي الجلادون لأنفسهم حرية التصرف به دون أي زواجر أخلاقية أو قانونية، ولا ينتهي بمجرد خروجه من أقبية المخابرات أو مقرات الشبيحة، بل قد تتضاعف معاناته بعد خروجه، فالمعتقل لأجل قضية سياسية أو لأنه هتف ضد النظام، مطلوب إما تجنيده عميلاً للنظام، أو تحويله إلى ركام بشرية، أو قتله عن سابق الإصرار تحت التعذيب.

كما لا يتقصد الجلادون إلحاق الأذى بالمعتقل فقط، بل بأهله بشكل يدمر حياتهم، ويفتت كيانهم، وفي مرحلة من المراحل تجاوز النظام ذلك إلى تدمير مدن المعتقلين وتهجير ذويهم من أراضيهم. فنحن لسنا أمام مجرد حالة اعتداء على حقوق المعتقل، بل أمام عملية منظمة ومنهجية هدفها تدمير المعتقل، وتحويله إلى حالة خراب، يشارك فيها كافة أجزاء آلة التعذيب دون الإحساس بمشاعر الذنب.

يبقى أن ما يفسر كل هذا التوحش دون أي زحزحة في المواقف أو شعور بالذنب، هو جعل النظام من التعذيب عملاً واجباً نبيلاً، كونه جزءاً من آلة الدفاع عن النظام الذي لا يجوز للمعتقل وأمثاله أن يهدده أو ينال منه، فالنظام بعيون جلاديه كامل وكلي القدرة وانتهى إلى تحقيق الذات، ونظام بهذه المواصفات لا يمكن أن يشعر المنتمون إليه بالذنب الذي يرتبط عادة بالعجز عن تحقيق الذات. لذلك تختفي في حالة التعذيب كل الروابط الإنسانية بين المعتقل وجلاده: المعتقل يتحول إلى شيء أمام ممثلي الكمال، وصفته الإنسانية تسحب منه في أول دقيقة لاعتقاله، ويصبح في نظر النظام أولاً ثم جلاده ثانياً السوء المطلق، أو الإجرام اللامتناهي. لذلك لا يجب أن تستغرب عبادة الحذاء العسكري، الممثل الحقيقي للنظام، كما أنه لا جدوى من البحث عن مشاعر الذنب.

لكن الجانب الأخطر في هذه الحرب بين الضحايا والجلادين، هو محاولة النظام تغطية وطمس آثار جرائمه بحق المعتقلين من خلال التطبيع مع فكرة كمال النظام واستحقاقه، وفرضها على أنها الواقع الذاتي، وجعل الواقع الإنساني الطبيعي تزويراً وكذباً ووهماً يروج له جهات معادية ومتآمرون داخليون. فإذا كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فإن الشهداء الأحياء قد يعيشون في جحيم هذه الدنيا، إذا لم يوضع النظام الأسدي في مكانه الحقيقي على أنه توحش دموي يجب إسقاطه، عندها فقط يمكن أن يظهر جلادون يحملون مشاعر الذنب، وربما بدفع من خوف المحاسبة لا غير.

تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *