يمكن للمتابع أن يسجل عدة ملاحظات حول مطالبة سوريين كثيرين بالديمقراطية؛ فهي تبدو نظرة سطحية لمجرد نظام حكم يُنتظر منه أن يكون نقيض حكم الاستبداد عبر صندوق الانتخاب، وأن من خلاله تتحقق الحرية والكرامة للإنسان تلقائياً.
رغم صحة تلك المقولات من حيث المبدأ الإجرائي، إلا أنه يمكن للمرء أن يلاحظ سوء الفهم لبعض أسس الديمقراطية، ولعل أهم خطأ يقع فيه الكثيرون هو تفسيرهم لمفهوم “الأكثرية”، أو ربما اختصارهم لمفهوم الديمقراطية بفكرة صندوق الانتخاب الذي يفرز “أكثرية”، وهذا لا يكفي للتعبير عن معنى الديمقراطية، إذ “أصبحت الديمقراطية بمفهومها العصري تتجاور كونها شكلاً من أشكال نظام الحكم، فهي تجاوزت نطاق المؤسسات الدستورية لتدخل في صلب العلاقات بين الأفراد والجماعات، فهي تدخل في تكوين شخصية الفرد والجماعة”، وهذا ما عبر عنه “جورج بيردو” بقوله: “إن الديمقراطية هي فلسفة، ونمط عيش ومعتقد، وتكاد تكون عرَضاً شكلاً للحكومة”.
لذلك فالاعتقاد بأن الديمقراطية مجرد صندوق انتخابات يفرز “أكثرية” هو اعتقاد فيه الكثير من المغالطة والتسطيح، لأن ديكتاتوريات عدة ظهرت على مسرح التاريخ الحديث عبر صندوق الانتخاب، وما يسجّلُ ل”الديمقراطية المرغوبة” في التمايز عن تلك التي أنتجت -أو ترعاها- سلطات تعسفية، أن الأولى حكم الأكثرية الساعية إلى تحقيق أهداف الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، والمتمسكة بالقواعد والمبادئ التي ترتكز عليها المؤسسات الديمقراطية.
من جهة ثانية يعتقد البعض أن بناء الديمقراطية يرتبط بقرار سياسي؛ بمعنى أن العملية سهلة مادامت الجماهير تطالب بها، بينما أثبتت التجارب حول العالم أن عملية بناء الديمقراطيات الناشئة لم تكن عملية سهلة أو سريعة، بل وباءت بعض التجارب بالفشل في بعض البلدان.
الديمقراطية بحد ذاتها تتراجع في بعض البلدان وتتقدم في أخرى؛ ذلك لأن عملية التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي عملية صعبة ومعقدة، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها: ثقافة المستبد وممارساته التي تصبح مع الزمن جزءاً من ثقافة المجتمع ومن نمط سلوكه، وغالباً ما تكون هذه الثقافة عائقاً أمام الانتقال الديمقراطي تحت تأثير “مقاومة التغيير” الذي هو نمط من السلوك معروف عند الإنسان. وعن ذلك يقول “دي ماجيو”، أنه في إطار عملية خلق “السيستم” تطور النخب الحاكمة ممارسات تخلق على المدى البعيد بيئة معينة تقيد من قدرة غيرهم على إحداث تغيير لاحق.
ولعل المعوق الآخر الذي لا يقل أهمية عن العامل الثقافي، هو أن الطباع النفسية للشعوب المقهورة لها سمات خاصة عالجها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي”، حيث تميل أغلب النخب التي تستحوذ على السلطة إلى التماهي بالمتسلط، والتماهي مرحلة أعلى من التقليد، إذ يشير معنى المفردة إلى التمازج أو الترابط أو الانصهار بين شيئين وجعلهما واحد. وبمعنى آخر فإن أغلب النخب المنبثقة عن مجتمعات مقهورة ما إن تستحوذ على السلطة حتى تنقلب على الأهداف المعلنة للثورة، مستنسخة أنموذج النظام السابق بأشخاص آخرين.
تجلت “الديمقراطية المرغوبة” عبر التاريخ بعدة أشكال، فهناك الديمقراطية المباشرة، والديمقراطية شبه المباشرة، والديمقراطية النيابية، والديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية التوافقية وغيرها. وغالباً ما تأخذ الديمقراطية شكلها المميز نتيجة للسياق التاريخي لتطور التجربة الديمقراطية في المجتمع، أو نتيجة للثقافة السائدة، أو كنتيجة لطبيعة المجتمع وتركيبته السكانية.
في الحالة السورية ربما كانت الديمقراطية التوافقية هي الأنسب وفق مراقبين، فتقاسم السلطة في المجتمعات التعددية يشجع على التعاون الجماعي بين النخب في أحسن الأحوال، ويتجنب الصراع العرقي أو الطائفي في أسوئها. ولكن رغم جاذبيتها وتناسبها مع المجتمعات التعددية كالمجتمع السوري، تبقى الديمقراطية التوافقية بحاجة إلى الكثير من الوعي والإرادة والتعاون، فبعض الشعوب التي خاضت هذه التجربة لم تكن نخبها موفقة في أدائها، ما تسبب في تعطيل أداء مؤسسات الدولة وقلة فاعليتها، ولنا في التجربة اللبنانية أو العراقية عبرة حسنة.
كل ما سبق يشير إلى أن عملية الانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي ليست بالعملية السهلة، فهي تحتاج مزيداً من الصبر والإرادة والحنكة والتدريب والتثقيف والمراقبة، ولعل الجهة الأجدر بالتصدي لهذه المهمة الشاقة هي منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع النخبة المثقفة.
تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.
المزيد من الأخبار
كيف اختار نوع خط
كيف اصمم عرض تقديميpresentation
رواية القرن الأول بعد بياتريس
بدائل مجانية لبرنامج powerpoint