لا يعد من قبيل المبالغة القول إن النسبة الساحقة من السوريين لم تكن تسمع بمفهوم “المجتمع المدني” قبل حراك آذار 2011 الذي فتح الباب على مصراعيه لظهور منظمات المجتمع المدني بشكل مكثف، فمع انحسار السلطة عن الكثير من المناطق السورية وارتفاع حدة العنف أصبحت الحاجة ملحة لظهور منظمات المجتمع المدني ذات الاهتمامات المختلفة، فمنها من اهتم بتوثيق جرائم الحرب، ومنها من اهتم بالإغاثة بمختلف أشكالها. ثم ما لبثت أن تطورت أنشطة هذه المنظمات وتنوعت لتشمل تغطية احتياجات من المفترض أن تغطيها مؤسسات الدولة.
عند الحديث عن مجتمع مدني حديث النشأة تبرز الحاجة إلى ضرورة الرعاية والدعم والتطوير، إلا أن أفكارا من هذا القبيل سرعان ما تصطدم بعقبة يصعب تجاوزها، فانحسار سلطة النظام وغياب مؤسسات الدولة لم يضع منظمات المجتمع المدني أمام أعباء مضاعفة وحسب، بل جعل البيئة التي تعمل فيها هذه المنظمات بيئة غير صحية، أو لنقل إنها بيئة استثنائية مؤقتة لا يمكن الركون إليها، فمن خلال مراجعة للدراسات والأبحاث التي تطرقت لمفهوم المجتمع المدني يصعب على الباحث العثور حالة واحدة تتحدث عن مجتمع مدني – بمعناه المعاصر – خارج إطار الدولة، وهذا ما عبر عنه عزمي بشارة بوضوح تام عندما قال: “لا ينشأ المجتمع المدني من ضعف الدولة … المجتمع المدني هو وليد قوة الدولة، ومن أجل موازنة هذه القوة. إن موضوع الرقابة على الدولة قائم لأنه – فقط لأنه – باستطاعة الدولة أن تراقب المجتمع. المجتمع المدني هو نتاج تحديد صلاحيات الدولة، لأن الدولة بإمكانها أن تتجاوز صلاحياتها؛ وهو نتاج تحديد العلاقة بين المجتمع والدولة … المجتمع من دون دولة، إن لم يكن تصورا معياريا مبنيا على تحليل لوضع الحدود معها، هو مجتمع بكل تخلفه وشوفينيته وتعصبه وانغلاقه وذكوريته وكرهه للأجانب ولغير المألوف، واحتقاره للمرأة والطفل وتجاوز الحق العام من قبل المصالح الخاصة”.
بناء على ما سبق؛ هل يمكننا الادعاء أن تلك المنظمات الناشئة لا تنطبق عليها مواصفات المجتمع المدني؟ في الواقع، ورغم بعض الشوائب، هي منظمات مجتمع مدني لاعتبارين اثنين؛ أولهما أنها نشأت في سياق حراك ثوري يروم إقامة دولة المواطنة. وبالتالي فالأفكار والقيم التي تتبناها هذه المنظمات هي قيم مدنية تحررية بالدرجة الأولى. أما الاعتبار الثاني فيرتبط بالجهات الداعمة، فهذه الجهات من خلال التدريبات والتوجيهات التي تقدمها والقيود التي تفرضها على تلك المنظمات تجعلها تعمل في السياق العام المعروف لمنظمات المجتمع المدني، إلا أن غياب الدولة يجعل الحالة استثنائية وغير واضحة المعالم. من هنا يمكن القول: إن قيام الدولة القوية هو الشرط الضروري والحاسم لتطور المجتمع المدني السوري الناشئ وازدهاره، ولأن المجتمع المدني لا يقوم خارج دائرة الإقصاء المتبادل مع الدولة؛ يجب أن تعي تلك المنظمات وأعضاؤها أن التوجه الرئيسي في هذه المرحلة هو الدفع باتجاه إقامة هذه الدولة، أو عدم إعاقته كحد أدنى، لأن محاولة إقصاء الدولة قبل نشأتها سوف يعني إعاقة قيامها. وبالتالي تنحية البيئة الطبيعية التي يمكن للمجتمع المدني أن يتطور فيها.
وعند الحديث عن الدولة لا بد من التنويه إلى أن المقصود بذلك هو الدولة بمعناها المعاصر؛ تلك التي تقوم على صيانة الحقوق والحريات العامة من خلال تبنيها لمبادئ الديمقراطية الحديثة. ولأن الديمقراطية ثقافة وسلوك؛ يحيلنا هذا بدوره إلى ضرورة توافر الوعي والخبرة الكافيين لدى أفراد الشعب بشكل عام، وأعضاء منظمات المجتمع المدني بشكل خاص، ومن أجل الارتقاء بمستوى الوعي والخبرات التنظيمية والعملياتية؛ ينصح عادة باتباع بعض المناهج والاستراتيجيات لتعزيز نمو وتقوية منظمات المجتمع المدني، منها:
بناء القدرات: ويتضمن ذلك توفير التدريب والموارد لمساعدة منظمات المجتمع المدني على أن تصبح أكثر فعالية وكفاءة في عملها، ويمكن أن يشمل بناء القدرات أشياء مثل التدريب على جمع الأموال والحوكمة وإدارة المشاريع والقيادة.
المناصرة والتواصل: يمكن تعزيز منظمات المجتمع المدني من خلال التواصل والتعاون مع المنظمات الأخرى لتبادل المعرفة وبناء الشراكات والدعوة لتحقيق أهداف مشتركة، ويمكن أن تشمل المناصرة الضغط من أجل تغيير السياسات وزيادة الوعي العام بالقضايا، وتعبئة المواطنين لاتخاذ الإجراءات.
التمويل وتقديم المنح: يمكن للمانحين تقديم التمويل والمنح لدعم نمو منظمات المجتمع المدني واستدامتها، ويمكن أن يشمل ذلك توفير التمويل الأولي لمنظمات جديدة، أو دعم توسيع المنظمات القائمة، أو تمويل مشاريع أو برامج محددة.
المراقبة والتقييم: يعد رصد وتقييم فعالية منظمات المجتمع المدني أمرًا مهمًا لتحديد مجالات التحسين والتأكد من أنها مسؤولة أمام أصحاب المصلحة، يمكن أن يشمل ذلك تتبع الأداء التنظيمي، وقياس الأثر، وتقييم فعالية التدخلات.
تبادل المعرفة والمعلومات: يمكن أن تساعد مشاركة المعرفة والمعلومات حول أفضل الممارسات والتدخلات الناجحة منظمات المجتمع المدني على التعلم من بعضها البعض وتحسين فعاليتها، يمكن أن يشمل ذلك إنشاء شبكات لتبادل المعرفة وإجراء البحوث والتحليلات وتبادل الدروس المستفادة من خلال المنشورات ووسائل الإعلام الأخرى.
الأهم من هذا وذاك أن يعلم الناشطون في منظمات المجتمع المدني أنهم في الطريق الصحيح نحو المجتمع الذي كان يصبو إليه حراك آذار 2011، وألا يتسلل اليأس إلى أنفسهم نتيجة المصاعب والمعوقات التي تواجههم نتيجة العمل ضمن بيئات مختلفة ومتغيرة، ونتيجة حداثة العهد بهذا النوع من الأنشطة. في خاتمة كتاب حول فكرة المجتمع المدني، يورد “آدم زيلغمان” اقتباسا من “وليام موريس” في كتابه “حلم جون بل”: “أتأمل في كل هذه الأشياء: كيف يناضل الناس ويخسرون ثم يأتي ما ناضلوا من أجله على الرغم من هزيمتهم؛ ولكن بحلوله يتبين لهم أنه ليس ما حاربوا من أجله، ثم يواصل آخرون النضال من أجل ما عنى الأوائل تحت أسماء أخرى”.
هكذا هو الحال دائما مع المناضلين من أجل القضايا النبيلة؛ إن لم ينجحوا تماما فإنهم لم يفشلوا، لأنهم اختصروا المسافة على الآخرين لبلوغ النجاح.
تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.
المزيد من الأخبار
كيف اختار نوع خط
كيف اصمم عرض تقديميpresentation
رواية القرن الأول بعد بياتريس
بدائل مجانية لبرنامج powerpoint