بلا شك أن النخبة بمختلف تخصصها هي القاعدة ومنطلق أداة الضبط وإعادة توزيع التوازن والاستقرار في حالة التغيير والحراك، ومما لا يخفى علي أي صاحب بصيرة ونظرة مجردة للمجال العام خلال ثورات الربيع العربي، أن هناك حالة صراع نخبوي وتناطح عبثي يساهم بشكل مباشر بخدمة الطغاة، وقيادة القوة والطاقة البشرية من نقطة التقدم في تحقيق النصر الحقيقي إلى وهم الانتصار، عبر تجزيئ الأهداف ودفعها بمحاور ثانوية تدور بدائرة مفرغة، تهدف إلى تصفير المطالب المشروعة والعودة إلى نقطة البداية وحالة الفوضى وعدم الاستقرار، محملة بأبهظ الأثمان من دماء وأوطان.
تنازع النخب المؤثرة في القرارات الخطيرة وتصاعد وتيرة هذه المهاترات، ظل يدفع الشارع -بقصد الخلاص- إلى التشبث بأي سلطة منظمة والقبول بها مهما كانت قمعية أو دكتاتورية، محققة لأهداف الحراك أم لا، من خلال القياس السطحي بين نخب ثورية فوضوية متصارعة صراعات مبهمة ونخب سلطوية تظهر منظمة، يفضلها الشارع بغض النظر عن السياسة والمنهج المتبع، ما يسبب هدراً لجميع الجهود بالوصول إلى النموذج الأمثل المستحق، رغم أن مشوار الألف ميل كان قد بدأ بعد أن استغرق باعاً طويلاً في التضحية والحقيقة، لكنه وقع بأيدي صبية تائهين يعبثون به تخريباً وإفساداً دون الانطواء تحت مركزية جامعة تجيد إكماله، وتنهي حالة الاستباحة الجماعية للحقوق وأكل القوي الضعيف بسبب “ضياع الطاسة” واللاسلطة.
في كل منطقة خرجت من سلطة النظام الدكتاتوري، تجد النخبة في جزر منعزلة تماماً، وكل جزيرة بما لديها تختال فرحاً وطرباً، لا شأن لها سوى أن توزع الاتهامات على مبدأ (لأكون يجب أن لا تكون)، فسنام الغاية وقمة الهدف إقصاء جيرانها في الجزر الأخرى، والسبيل إلى ذلك هدر دماء الأفكار الممنهجة بهدف الإقصاء وتحقيق المصالح الفردية الواهمة، والتغلب على خطر الكيانات الموازية عبر العقلية الصفرية التي تسود في رؤوس من تقلد جميع هذه الأجسام الهشة المتآكلة، وتؤدي إلى تدميرها قبل أن تدمر غيرها، دون التفكير الحقيقي والعملي لبناء جسور التواصل والعمل على رؤية موحدة جامعة تسقط الإيديولوجيات المختلفة بما يخدم الهدف الأعظم والمصلحة العامة المشتركة.
في الثورة المصرية مثلاً، ساهمت النخبة في إجهاض العملية الديمقراطية، وأعادت بيدها الحكم الانقلابي للسلطة، مضيعة كل الجهود عبر هيمنة القضايا الأيدولوجية والتلاعب بالحشود الجماهيرية في مواجهة بعضها البعض عبر خطابها، طبقاً لتصور الفيلسوف الألماني هيغل القائم على حشد الإرادات السياسية للأفراد بشكل عاطفي أيديولوجي أحادي إقصائي، والذي لم يرجعه إلى مفهوم اتفاق المصالح المختلفة في المجتمع كما أرجعها جون لوك وتوماس هوبز وجان روسو في نظرية العقد الاجتماعي، ومن مساوئ هذا التصور أنه قد هيأ تاريخياً الإطار المعرفي الذي انطوت تحته كل النظم التسلطية والفاشية، وينطبق هذا على غالبية ثورات الربيع العربي.
التشققات التي سكنت في فراغاتها الخلافات الإقصائية في جسد النخب العربية، ثبطت المناعة السياسية الجماعية ضد الاختلاف والرؤية الموحدة وقداستها في أي مشروع تغيير عن الانحدار في هاوية الأهداف المتباينة والمتعارضة، وهيئت المناخ لبروز تيارات خارجة عن دائرة الكفاءة والنزاهة تفتقر للوعي السياسي، برؤية متبلورة ضمن اصطفافات مختلفة الولاء والانتماء، حولت الساحة إلى كانتونات نفوذ تحكمها حدود وجودية مجردة يقتات غالبية زعمائها على الصراعات الدموية الاستبعادية، وفتحت المجال لعودة النظم الاستبدادية الفاشية للهيمنة على السلطة عبر قوة العسكر بفضل تلك الفجوات التي أحدثتها النخبة في صراعها العبثي.
حالة فوضى مرعبة على مستوى النخب تستدعي الوقوف عندها طويلاً، قبل أن نخبئ تلك الحقائق ودورها الفاعل خلف إصبعنا، ونسلم إلى نظرية المؤامرة والبيئة الدولية لتعويم الأنظمة الدكتاتورية؛ قد نكون بحاجة إلى إعادة تنظيم الجهاز المعرفي والعمل على مستوى الذات والأنا في تلك الأجسام، وإعادة هيكلة قاعدة انطلاق العمل في الشأن العام، والوقوف بشكل صادق وعميق على أسباب بروز تلك النتائج، والخروج عن دائرة المألوف وإعادة التجارب السابقة عبر خلق جهاز معرفي مهاري جديد، يستند على تراكمية طويلة تتوج بالخبرة بماهية الواقع النخبوي، لإنشاء كتلة صلبة حاملة لرؤية رشيدة ملتزمة بمشروع جامع، والعمل على تطبيقه بإشراك جميع النخب دون أن تتفرد إحداهن عن الأخرى، وبما يخدم العموم المطلق ومصالحه المختلفة، لا المحاور الضيقة الحزبية.
تنويه: يعبِّر هذا المقال عن رأي كاتبه فقط، ولا يعبِّر بالضرورة عن رأي موقع هوز.
المزيد من الأخبار
كيف اختار نوع خط
كيف اصمم عرض تقديميpresentation
رواية القرن الأول بعد بياتريس
بدائل مجانية لبرنامج powerpoint